لن يختلف معي أي أحد عن أن الشعر موهبة ومنحة إلاهية ، خصها الله سبحانه وتعالى لمن اصطفاه له ، فهو ذلك المناجي للجمال والخير والعدل والفضيلة ، وهو ذلك الرحَّال في عالم الخيال البديع ، وعالم الأحلام ، وواحات الأمان ، ورياض الأماني والتأملات ، فالشاعر يحلم في يقظته ، ويسافر ويتنقل من أماكن لأخري ، ومن أزمنة لأخرى ، وهو لا يبرح مكانه . والشاعر أيضا ، هو ذلك الصانع الذي يتقن صياغة ما وهبه الله له من شعر ، بتعبيراته اللغوية ، والملامح التي تعبر عن الذات الإنسانية ، وهو ذلك المتحرر من قيود وأطر الواقع أو السلطة . وبشكل غير معد له تأتيه القوافي تلقائية ، فيحسن استقبالها واحترامها ، فلا يجعلها تطغى على المعنى . وفي الشعر ألوان متعددة ، في الوصف ، والفخر ، والحماسة ، والنقد ، والسخرية ، والوطني ، والديني ، والرومانسي ، والسياسي ، والاجتماعي ، ولا يخلو الشعر من الخواطر ، ولا يبعد عن التأمل ..! وشاعرنا رضا أبو الغيط في ديوانه ( أشجار الخوف ) الصادر عن دار النيل والفرات للنشر والتوزيع ، تعامل مع ألوان متعددة ومتباينة للشعر ، ورصد لنا مشاهد من الحياة في الريف والحضر ، وكشف الستار عن حقائق في زمانه وعالمه مليئة بالأحداث ، ولم يستسلم أو ينكسر أمام المحن .. ( أنا قلت أفوت” عالم ما بيعرف غير الموت”عالم مسخوط “بيخش حواري وقلب بيوت ” وبيقلب كل حقايق الكون ) . ولأنه شاعر يأبى أن ينفلت من زمانه ، فهو يحمل رسالة يؤديها على مدى حياته ، هذه المهمة واجبة ، مهما كلفته من مشاق ، وتعب وآلام ، ولو تبقى من عمره لحظة ، سيعلن فيها ما لديه ، ولن يستسلم إلا بالموت .. ( بين أنين الذكريات” والمواجع والسك”والحنين اللي في قلوبنا”صابه سهم الغدر مات” واللي فاضل مني لحظة ” لجل ما احكي للي عايش “قصة الشوق والآهات والضحايا والرحايا م اللي دارت فوق أم” والطموح والأمنيات” لجل ما احكي للولاد”قصة الديب اللي خان “اللي باعنا للجبان”اللي لابس ألف وش ، اللي عاش عمره يغش ، قلبي طارح بالأمان “لجل ما احكي للشاب ) . والشاعر لا يهرب من واقعه ، ومن الأحداث والظروف التي يمر بها أو تمر عليه ، لا يعنيه ما يتلسن به البعض عنه ، في هذه القصيدة التي يتكلم فيها بضمير الأنا ، فهو شجاع مع نفسه ، عندما قرر هو ، أو بطل قصيدته السفر خارج حدود الوطن ، وباع البقرة ، و( حبة البط ) من أجل تذكرة السفر ، ويترك أمه التي تحتاج العناية والرعاية ، وزوجته وإبنه ، ويذهب إلى بلاد الغربة ، ولخص هذه السفرية بشجاعة وصدق ، وأحسن تصوير لوحة كلية للغربة ، وحصادها المر .. ( قمت ركبت البحر وجيت ” لجل ما اقابل أهل البيت” وان جيت اتغرب تاني “أو يفصلنا ثواني الشط”قولوا عليَّا بقيت مجنون”وان العقل العاقل شط ) ، ليقرر لنا أنه تعلم من التجربة ، وهي أيضا جرس أنذار لمن يفكر في السفر . ويلخص لنا أيضا حقيقة الحياة في زمنه دون أي زيف أو إخفاء لها ، هذا لأن مشاعره دفعته دفعا قويا ، أن يقول وهو الشاعر القوَّال الذي يمتلك الإحساس ، ففي قصيدة ( جرعة مر ) ، والتي يتكلم فيها بلسان الجمع ، فهو شاعر يعبر عن بيئته وناس بيئته ، وما يعانوه من ضغوط وأزمات ومصائب وجريمة وظلم .. ( مطلوب ندوق المر” ونصب منه كاسات ‘ لجل الحياه ما تمر “ونودع الأموات …. واحنا لا دقنا الشهد ” ولا حتى دقنا فتات ” كل اللي زاد ع الخد ” كام دمعه للأموات …. حتى الضمير الحي “م الظلم ولى ومات ) . لقد اختار الشاعر رضا أبو الغيط هذا الأسلوب السهل الممتنع ، عميق المعنى ، والمنسجم مع أحاسيسه ، ومشاعره لينطلق به في عالمي الزجل والشعر ، ليؤكد على قدراته الغير عادية ، لإنتاج قصيدة العامية المصرية . وفي أشجار الخوف جمع ألوانا متعددة ومتباينة للحزن والهم وسواد الدم ، ومرارة الحنظل ، والآلام والأوجاع ، والحيرة ، والغربة ، والآهات ، واللهفة ، والدموع ، والأماني، والأحلام على مصطبته الريفية المتواضعة ، ليجعل من شعره ، مادة للتسامر العاطفي ، وطريقة للقوالة التي تهدف إلى بلوغ الغاية، ووصول الرسالة إلى المتلقي