اللغة هي أهم عنصر من عناصر تكوين العمل الإبداعي الأدبي ، حيث تقوم وتنشأ القصيدة أو القصة أو الرواية أو النص المسرحي ، أو أي عمل إبداعي على اللغة ، وفي شعر الفصحى تكون اللغة ، وفي شعر العامية تكون اللهجة ، ولا يتوقف هذا الأمر على العمل المكتوب ، إنما يمتد إلي الأعمال القولية الشفاهية ، فاللغة وسيلة التواصل بين المرسل والمستقبل . والكلمة لابد وأن تؤدي إلى معني له قيمة ، فالكلام الذي لا يؤدي إلى أي معنى هو هراء لا قيمة له .
ولكل مبدع حصيلة مفردات في خزانة فكره ، اكتسبها على مدى عمره ، ومن عمق ثقافته ، ويختلف الشاعر عن غيره بحسب قاموسه اللغوي ، أو حصيلة مفرداته ، وأيضا باختلاف ثقافته ، مما ينعكس هذا على ثراء العمل الأدبي .
وقد تكون المفردة بسيطة دالة إلى معني تصل إلى المتلقي بسهولة ، أو صعبة دالة إلى معنى أيضا ، ولكن قد لا تصل إلى المتلقي بسهولة ، وقد يحتاج إلى الكشف عنها في المعجم ، مما يرهقه ، وقد يعزف المتلقي عن القراءة أو السماع لهذا الكاتب ..!!
لقد هدفت من هذا الاستهلال ، أن أصل إلى ما وراء عبارة ( السهل الممتنع ) ، فالسهل هو ذلك البسيط ، والممتنع الذي يعصى على الآخر إن يأتي بمثله ، وهذا أبسط ما أدلل به على عبارة السهل الممتنع . وفي تفصيل وتوضيح للسهل الممتنع في الشعر ، هو ذلك الكلام البسيط الذي يعصى على الإنسان العادي محاكاته ، وليس كل إنسان بشاعر يكتب الشعر .
وعلى سبيل المثال ، من كان يسمع الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي ، في خواطره لتفسيرالقرآن الكريم ، كان يتميز في حديثه بالسهل الممتنع ، كلامه سهل الوصول إلى المتلقي وفهم معناه وما يهدف إليه ، ولكن يصعب على الآخر محاكاته ، والطريق السهل ، هو المنبسط الذي يخلو من المنحدرات والصعوبات والعوائق والمعضلات .
وشاعرنا مجدي الصفطي ، اختار لنفسه هذا الأسلوب السهل الممتنع . اختار أن يكتب بسيط الكلمة ، عميق المعنى ، اختار إن تكون تركيب العبارة بسيطة ، ولكن تصعب على من يريد تقليدها .
في بداية الديوان ( أصل الحكاية ) يعلن الشاعر عن وطنيته ، وعن رابطة الانتماء إلى مصر/ الأم ، فهو الإبن البار لأمه ، الذي يشعر بالدفء والحنان في أحضانها ، لدرجة أنه لا يرغب أبداً في البعد عنها ، ويشده هذا العشق إلى الخوف عليها .. فيتحول عشقه في بعض الأوقات إلى لوم ، وقد يصل العتاب إلى حد الصراخ ، وقد صوَّر ذلك بفنية .. ( لمَّا شوفت الظلم سايد/ والفساد على بيضُه راقد / كل يوم يفقس ويكبر/ والهموم في قلوبنا تكتر / وانتي برضو زي ما انتي / فاتحه للكل درعاتك …….. لما قطر المجد فاتك / ليَّا عندك ألف حق / إني أصرخ بأعلى صوت ..) .
وبرغم الزعل وشيل الهم / على حال الأم ، هذا الحال الذي يراه قد وصل إلى السواد الحالك .. ( زعلان عليكي يامصر / حالك صبح حالك / أولادك الحلوين / بيقطعوا وصالك / بيهدوا ما بيبنوش …………. اتفرقوا جماعات ، ويبدو أن هذا الحال ، هو المُعاش على مسرح الواقع في زمن الشاعر ، ولا يملك أن يغيره بمفرده ، مما يظهر لنا أنه لا يملك إلا الدعاء .. ( ما املوكشي غير الدعا للمولى يحميكي / وارفع له إيد الرجا يحفظ أراضيكي / يهدي ولادك بقى / ويفكروا فيكي ……… ) ..!!
وفي كل مرة يؤكد على هذا الانتماء ، ويعلن عنه حتى لو أخذته الغربة ، وأضناه الشقاء ، أو كانت الغربة جنة ، فلن تروق له ، تلك الجنة/ الغربة . ويستدعي الحكاية الرومانسية ( ياسين وبهية ) ، وتلك العاطفة التي ربطت بينهما ، حتى قال شاعرنا في أصل الحكاية التي بنى عليها ديوانه .. ( أصل الحكايه هيَّ هيّ / أصل الحكايه يا بهيه / إن انا هافضل ياسين / وانتي برضه هتفضلي دايما بهيه ) .
وفي صورة رافضة لكل ألوان الدمار والدماء البريئة التي تسيل على أرض الوطن ممن أهدر قيمة الانتماء ، من هؤلاء الذين يتشدقون بحب الوطن ، وتتلون شعاراتهم في حب مصر .. وبعد أن يستعرض ما تفعله هذه الشريحة المتطرفة ، يستنكر بأسلوبه الشعري هذه الأفعال .. ( مفيش يوم سمعنا / في دنيا الحكاوي / حبيب بس غاوي / يدمر حبيبته / يسيبها وحيده / ويائسه وشريده / ولا حتى شوفنا / في قاعدة قهاوي / حبيبه بتوهب / حياتها لحبيبها / وهوَّه بيجلب / عليها البلاوي ..)
فحب الوطن عنده ليس بشعار ، إنما هو ميثاق وعهد ، هو قيمة وأساس يجب أن يصان ، ومن يقدر على ذلك يقولها بفخر ، ( باحبك يا مصر ) .
وفي حالة رومانسية ، برغم أنها ليست موجهة إلى أنثى بعينها ، ويحتوي مضمونها الرمزية ، إلا أنها قد تفي بالغرض ، وهو إرسال رسالة إلى أنثى ، قد تكون في العالم الافتراضي ، وبلغة الفيس بوك يقول بما يصلح للغناء ، ويكشف عن مقدرته لكتابة الأغنية .. ( احذفيني من حياتك إن قدرتي / عطلي حسابي في قلبك / كنسلي البوست اللي حبك / اضغطي ع الشوق دليت / فرمطي الفكر العبيط / عيشي من غيري أهاتك / يا حبيبتي / إحذفيني من حياتك ..).
وهو يرفض ويستنكر ويشجب ، بصراحة كاشفة للزيف الأمريكي ، وكل السموم التي تأتينا من الأمريكان ، من ثقافة وافدة مدمرة للشباب ، وفتن تريد الفوضى الخلاقة ، وما يحاك من مؤامرات مستمرة لتركيع مصر والسيطرة عليها وعلى أرضها ومقدراتها وثرواتها ، ويرفض أي تبعية لأمريكا .. هذا في قصيدة الوصايا الأمريكية .
ولأنه عربي يؤمن بقضية فلسطين ، الدولة التي يريدون محوها من على الخريطة ، واستبدالها بدولة إسرائيل ، هو رافض لكل ما يحدث من اغتصاب للأرض الفلسطينية ، وسفك دماء الأبرياء ، وسجنهم وتعذيبهم .. في قصيدته ..( قرار شعوب ) التي يهديها إلى شعب غزة ، قصيدة بطعم الألم والمرار والإنكسار ، يعلو فيها صوت الموت فوق كل الأصوات ، وينحدر الإحساس إلى مواطن البرودة والثليج ، ساخرة من فعل العرب ، حيال قضية فلسطين ، وتعلقهم بحبال خائبة وتائكة اسمها السلام .. ( رمضان بطعم البرود / خيم على غزه / واحنا بكل البرود / ناكل ونتغذى / مابين كلام ووعود / أهي ضاعت العزَّه .. ) .. وبهذا يعلن عن موقفه في هذه القصيدة .
ولأنه شاعر يشعر بهموم مجتمعه ويتألم بآلامهم ويحزن لحزنهم ، وكيف لا يشعر بهم وهو منهم ، فالشاعر ابن بيئته ، يتكلم عنهم .. وفي قصيدة ( حاول تفهم ) رسالة إلى فئة من فئات المجتمع تجمعت تحت راية غير راية الوطن ، والشاعر يحذرهم من قومة الشعب ، فهو قادر على الإطاحة بأي ظلم أو أي استبداد ، وبأسلوبه السهل الممتنع يقول .. ( يا اللي مفكر / إنك تقدر / تحصر كل خيوط أوطانا / بفكر جماعه / شكلك واهم / شكلك أصلاً مانتاش فاهم / إن الشعب المصري ما عمره / يرضى سياسة سمع وطاعه / إن الشعب المصري بطبعه / طيب جدا / صابر جدا / لكن وقت الشده بيظهر / أقوى شجاعه ..) .
واستوقفتني هذه القصيدة بروعة فكرتها .. ( احنا كنَّا ) ، تلك الحدوتة أو القصة الشعرية ، التي تجمع الكثيرمن ملامح الوطن ، وما آلت إليه الأحوال ، من تفكك وضعف وفرقة ، غيبت أيامه وأمجاده ، وأطاحت بالحلم العربي ، الذي نشط وترعرع في بعض الفترات من الزمن ، بالإشارة إلى ( إحنا كنا ) ، هو البكاء على أطلال الماضي ، ورفض كل ماهو واهن ومضطرب وخائف ، في ظل اختفاء القيم الإنسانية والإخلاقية ، وطغيان عصر المادة ، والتمسك بالزعامة ، قصيدة .. استدعت فترات ومراحل عمرية وتاريخية نضحت بالمتناقضات ..!!
والشاعر مجدي الصفطي ، جمع عواطف الحب والانتماء والحنين ، وأحسن استقبالها من وجدانه ، وإرسالها إلى المتلقي ، في صور متباينة ، أفصحت عن مقدرة محترمة لإنتاج قصيدة شعرية ذات هدف غايته الإصلاح ، كحال الرسل ، الذين يلقون المتاعب في سبيل توصيل رسالتهم للناس ، فالمبدع المخلص لله ثم للوطن ، هو رسول بدون وحي .. !!. وأيضا كان الرفض والشجب والاستنكار ، هي في مجملها عاطفة ، للشعور بعدم الرضا على سوالب الواقع ، فدائما هناك الأفضل والأجدر ، وهو ما يبحث عليه الشاعر ويتمناه ..!!
هذا الديوان ( أصل الحكاية ) به الكثيرمن الجماليات والقيم ، ولكنني آثرت أن أشير إلى أهم الملامح في الديوان وهو ملمح الانتماء القوي إلى الوطن ، وأعتقد أن الشاعر مجدي الصفطي سيقدم للقارئ في ديوانه القادم ، ما يجعله ينتظر كتاباته الشعرية ..!!