بقلم الدكتور عصام الصيفي
إمام مسجد الفتح بالزقازيق
إن لحادثة تحويل القبلة أبعادًا كثيرة:منها: السياسي،والعسكري،والديني البحت، ومنها التاريخي؛ فبعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبُعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث النبوي لإبراهيم عليه السلام، وبُعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة، وإنهاء الوضع الوثني في المسجد الحرام؛ حيث أصبح مركز التوحيد بعد أن كان مركزًا لعبادة الأصنام،وبُعده الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية،وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها،والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان. وتحويل القبلة دروس وعبر منها: 1- محنة وابتلاء:وكان لله عز وجل في جعل القبلة إلى بيت المقدس،ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين،فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا،وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا،وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم،وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا،وما رجع إليها إلا أنه الحق،وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله،ولو كان نبيًّالكان يصلي إلى قبلة الأنبياءوأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقًّافقد تركهاوإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على الباطل وكثُرت أقاويل السفهاء من الناس وكانت كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾[البقرة: 143]،وكانت محنة من الله إمتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه. ولقد ابتلي المسلمون الأوائل بهذا الحدث أيَّما ابتلاء،فثبتوا – رضي الله عنهم – ما ضرتهم حرب اليهود الإعلامية،ليضرب الصحابة – رضوان الله عليهم – القدوة والأسوة في مواجهة الابتلاء، ولقد علمونا – رضي الله عنهم – الصبر على ألوان ومجالات الابتلاء،بدايةً بابتلاء السجن والحصار والتعذيب في رمضاء مكة، وحتى الصبر على الترسانة الإعلامية اليهودية. 2- تحويل القبلة دلالة على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد أخبر الله تعالى بما سيقوله اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته فهو يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛إذ هو أمر غيبي، فأخبر به قبل وقوعه ثم وقع فدل ذلك على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول يخبره الوحي بما سبق،وهو يدل أيضًا على علاج المشكلات قبل وقوعها؛ حتى يستعد المسلمون ويهيؤوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها والرد عليها، ودفعها،فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد،والجواب العتيد لشغب الخصم الألد. 3- لم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه؛ كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛كما أنه بدوره ينشئ شعورًا بالامتياز والتفرد. 4-من هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم،التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء، ولم يكن هذا تعصبًا ولا تمسكًا بمجرد شكليات،وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات،كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة،وهذه البواعث هي التي تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية،وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير،وخلقًا عن خلق، واتجاهًا في الحياة كلها عن اتجاه، كما روى “خالفوا المجوس”، وهو نهي عن التشبه في مظهر أو لباس،نهي عن التشبه في حركةأو سلوك ونهي عن التشبه في قول أو أدب،ثم هو نهي التلقي عن غير الله منهجه الذي جاءت هذه الأمة لتحقيقه في الأرض،إن الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة،والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة،والتميز بأهداف وإهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور،والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس؛لتحمل أمانة العقيدة وتراثها. 5- الأمة الوسط: يقول ابن كثير يقول الله تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم؛ لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداءَ الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل،فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد، وفي التفكير والشعور في التنظيم والتنسيق، والارتباطات والعلاقات، وفي المكان في سرة الأرض وأوسط بقاعها،أمة وسط في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح،وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال. أمة وسط في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة،ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها في تثبُّت ويقين. أمة وسط في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا وذاك،أمة وسط في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته،ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا، لا همَّ له إلا ذاته، إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطاتما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة.وما أخر هذه الامة إلا اتخاذها مناهج وصبغات بديلة عن منهج الله،ورضيت لنفسها بمقام التابع لغيرها،وحري بالمسلمين أن يعودوا إلى وسطيتهم التي شرفهم الله بها من أول يوم. حري بمن استوردوا التشريعات والقوانين الوضعية العفنة أن يعودوا إلى وسطية الإسلام، وحَرِي بمن كفَّروا المسلمين، وفسَّقوا المصلحين أن ينهلوا من وسطية الإسلام…