كتب- محمود الوروارى
استضاف الصالون الثقافي بالنادي الاجتماعي بأبوحماد، في أمسيته الأسبوعية الكاتبَ والناقد الأستاذ بهاء الدين الصالحي الذي ألقى محاضرة بعنوان “المشروع الفكري للدكتور عبد الوهاب المسيري” (1938-2008).
بدأ الصالحي محاضرته بالتعريف بالمسيري وحياته العلمية وموقعه بين مفكري عصره، مشيراً إلى أن تخصصه الأكاديمي في اللغة الإنجليزي ورحلته إلى الولايات المتحدة أسهما بشكل كبير في فهم العقلية الغربية؛ ليقدم نموذجاً تفسيرياً فريداً لواقع الحضارة الغربية ومفرداتها، وأن هذا الفهم تجلّى في مشروع فكري كبير أسفر عن عشرات الكتب، كان أبرزها موسوعته الكبرى “اليهود واليهودية”، و”العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية” وغيرهما.
النموذج التفسيرى
وفقاً للصالحي؛ فإن عدداً من المفكرين العرب قدموا مشروعات فكرية بعد اصطدامهم بالحضارة الغربية وهيمنتها على العالم؛ كان منها مشروعات انبهرت بالحالة الغربية وحاولت أن تذوب فيها، ومنها مشروعات اصطدمت به، فحاولت أن تحيي هويتها التاريخية لمواجهة الزحف الأبيض بصورة انفعالية. في حين وقف المسيري من الحضارة الغربية ليقدم نموذجاً تفسيرياً موضوعياً مختلفاً عن أقرانه؛ فهو يناقش لماذا وصلت هذه الحضارة إلى ما وصلت إليه مادياً وأخلاقياً؟ أملاً في أن نجد لأنفسنا موقفاً واعياً للتعامل مع هذه الحضارة المسيطرة.
ونبه الصالحي إلى أن المسيري لم يكن أول من قام بهذه المحاولة، لكن سبقه “فتحي رضوان” (1911-1988) لكن جهوده لم يكتب لها الشهرة والرواج والاكتمال، مثلما حدث مع المسيري.
الجماعة الوظيفية
ولما كان الصراع العربي الإسرائيلي هو الصراع المسيطر على المنطقة العربية منذ منتصف القرن الماضي؛ فقد اتجه المسيري إلى نقض مجموعة الأساطير التي تم تصديرها إلى العقل العربي ليظل عاجزاً عن المقاومة إذا هو سلَّم بها؛ وأبرزها فكرة التميز العرقي والذكاء اليهودي. كاشفاً عن أن الجماعات اليهودية لم تكن يوماً سوى “جماعات وظيفية” في المجتمع الأوروبي، تؤدي أدواراً بعينها، ومعظمها أدوار خبيثة لصالح ذوي المال والنفوذ الأوربيين المستترين. فلم يكن اليهود يمانعون في تقديم الخدمات المنبوذة أخلاقياً كالربا والدعارة، وهو الأمر الذي تكشفه الأدبيات الثقافية الغربية. وحتى عمليات تهجير اليهود إلى فلسطين لم تكن في إطار صفقة بين نديين قويين، وإنما أرادت أوروبا أن تتخلص من هذه الجماعات الوظيفية التي صارت عبئاً على واقع جديد صار يتشكل في أوروبا. كما أن “بروتوكولات حكماء صهيون” ليست سوى بروباجندا مزيفة وتمثيلية ساذجة لتثبيت فكرة العبقرية الصهيونية أمام خصومها، والترويج لمصداقيتها يخدم اليهود في صراعها مع العرب.
وأشار الصالحي إلى أن تفسير القضية اليهودية وتفكيكها يسيطر على عدة عناوين لمؤلفات المسيري، أبرزها موسوعته الكبرى “اليهود واليهودية والصهيونية” في 8 مجلدات، وهذه الموسوعة استغرقت زمناً طويلاً من عمر المسيري، وأحدثت صدمة في الأوساط الثقافية العربية فور صدورها، لأنها كانت دراسة موضوعية غير متحيزة، قامت على تحليل الحالة اليهودية تحليلاً واقعياً محايداً بصورة لم تعهدها الأوساط الثقافية العربية. ومن بين العناوين الأخرى التي طرحها المسيري في هذا الشأن أيضاً: كتاب “نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفـكر الصهيوني”، و”العنصرية الصهيونية”، “الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد”… وغيرهما.
العلمانيتان الجزئية والشاملة
الموضوع الآخر الذي تطرقت إليه الندوة؛ هو موضوع النموذج التفسيري للعلمانية، والذي أسفر عن كتاب “العلمانية الشاملة والجزئية” في مجلدين، وفي هذا القسم سرد الأستاذ بهاء الدين الصالحي موقف المفكرين العرب من العلمانية، مشيراً إلى أن اختزال مفهوم العلمانية في العقل العربي أدى إلى خلل في فهم العلمانية باعتبارها ظاهرة اجتماعية شاملة، فهي ليست مجرد نظرية فكرية يحتويها تعريف اصطلاحي في أربعة كلمات: “فصل الدين عن الدولة”. كما أن الجانب السياسي من العلمانية هو ما يمثله مصطلح “العلمانية الجزئية”، وهو جانب اختلف حوله المفكرين والفلاسفة العرب اختلافاً كبيراً بين القبول والرفض.
هذا الاختزال المخل أسهم في معالجات خاطئة وإجراءات غير موفقة في التعامل مع “العلمانية الشاملة”. من هنا قدم المسيري دراسته حول العلمانية من خلال تفسير متتاليات البنية الاجتماعية والفكرية الغربية ليصل إلى حقيقة العلمانية من خلال تطبيقاتها في حياة الناس وأدبياتهم، وليس من خلال التعريفات المجردة المختصرة!
وذكر الصالحي أن الدكتور عبد الوهاب المسيري خلص إلى أن العلمانية الشاملة عملت على إنكار المعاني الإنسانية، وقامت بتحويل الإنسان ذاته إلى مجرد سلعة أو قطعة غيار، ناحتاً مصطلح “التشيؤ” أي أن الإنسان مجرد شيء أو رقم. وهذا يعني أن الأشياء غير الصالحة لا ينبغي الاحتفاظ بها، فكما نرمي علب الكانز الفارغة في سلة المهملات؛ فمن السهل تقبل أن نخرج من الحياة الإنسان/ الأشياء عديمة القيمة، وهو ما حدث تطبيقياً في المجتمعات العلمانية في لحظات من التاريخ؛ مثل إبادة الهنود الحمر، وإبادة هتلر لليهود غير النافعين، والطاعنين في السن والمرضى مرضاً مزمناً لأنهم يأكلون ولا ينتجون!
والخلاصة هي أن العلمانية الشاملة تقوم على تنحية فكرة الأخلاق والضمير، وتعمل على تصدير فكرة الأذكى والأقوى والأسرع، وهي تتبنى تأويلاً منحرفاً لعبارة دارون “البقاء للأصلح”. ويمكن ملاحظة هذا التوجه في مفردات بسيطة أثرت علينا ثقافياً. فكارتون “توم وجيري” يؤصل في دماغ أطفالنا أن الفأر الذكي السريع هو الذي يستحق الانتصار على القط الضخم الساذج الذي لا يبدأ في العادة بالصراع والاعتداء، لكنه دائماً ما يكون الضحية لذكاء وخبث وطمع الفأر الخبيث.
كما صدرت هوليوود في أفلام رعاة البقر مشهداً مكرراً للمواجهة بين فارسين يطلقان النار على بعضهما، وأن الحياة تكون لمن يخرج مسدسة ويقتل خصمه قبل الآخر دون أي اعتبار للأخلاق والضمير، فالحياة لا يستحقها إلا الأسرع والأقدر على إصابة خصمه في مقتل، أي أن الممارسة العلمانية الشاملة ترعى فكرة خطيرة وهي: إما أن أقتلك لأعيش أنا أو تقتلني لتعيش أنت!
في نهاية الندوة التي أدارها الأستاذ محمد شحاتة، طُرحت على الضيف العديد من الأسئلة والاستفسارات حول موضوع الندوة.
الحاجة إلى الوعي
في حين قدم الأستاذ سعيد زامل، مدير النادي الاجتماعي بأبوحماد شكره لضيف الندوة الأستاذ بهاء الدين الصالحي على هذه الوجبة الثقافية الدسمة، مؤكداً حاجة أبنائنا الملحة إلى هذا المستوى الراقي من الوعي، فهو الذي سيحميهم من أخطار الأفكار السطحية والمتطرفة، فالعقول الفارغة لديها استعداد لأن تُساق لأية أفكار أو تيارات لأنها خفيفة الوزن غير مصقولة بالمعرفة والعقل الناقد.