بقلم : حمدي كسكين
عضو اتحاد كتاب مصر
أمر في شوارع قريتي في الحواري والأزقة والطرقات
لقد تبدلت قريتي التي كانت وطنا يعيش فينا .. كانت البيوت طينية وكل بيت أمامه المصطبة وما أدراك ما المصطبة في حياة القروي قديما كانت البيوت مفتوحة الأبواب علي مصراعيها تضج بالحركة والضجيج والزوار وأمام بيتنا الطيني ذو المصطبة الرحبة الواسعة العالية والمفروشة بالحصير المر أو الحصير المصنوع من السمر والمساند علي جانبي المصطبة ومنقد النار الذي صنعته جدتي من بقايا طين وشرب ممزوج بالتبن كانت تبني منه صومعة الغلال لزوم تخزين الحبوب وعرصة الفرن البلدي علي الجانب الآخر وفي ركن مستور تقبع أمي منهمكة في إعداد الطعام علي الميفة أو ما يسميه البعض الكانون مستخدمة الحطب كوقود لإعداد الطعام
تجلس أمي وبجوارها جدتي وبعض الصبايا يلفون أصابع محشي الكرنب في مهارة فائقة وسرعة يحسدون عليها
كنت في ذلك الوقت طفلا صغيرا لم تؤهله سنوات عمره ليقوم بدور الصبية الكبار من أخوتي المسئولين من قبل والدي عن رعاية الأرض والقيام بأعبائها الشاقة
تقترب الشمس من المغيب تعبق سماء قريتنا بدخان حطب المواقد والأفران البلدي لإعداد الطعام
موكب الغروب في شوارع القرية قديما كان غاية في الروعة والإبداع الشوارع مكتظة علي آخرها بالعائدين من الغيطان والحقول يجرون في أيديهم جحافل الأبقار والجاموس ومن خلفهم الغنم تنساب خلف البهائم محدثة صخب وضجيج من فرط حركتها التي لا تخضع للسيطرة
كان الشقاء والتعب والمعاناة هو القاسم المشترك بين الناس في قريتنا والبهائم من البقر والجاموس والحمير
لم تكن الميكنة الزراعية قد دخلت القرية بعد
فكانت البقرة تعلق في التابوت أو الطمبوشة لنسقي الزرع
ولم تمحو من ذاكرتي منظر والدي ممسكا بالمحراث البلدي الذي تجره بقرتين فاقع لونهما من شدة المعاناة والتعب
ومعلقا الراديو في ناف المحراث البلدي
وهو ينادي بأعلي صوته مسترجعا ما درسه في القسم الليلي ( محو الأمية ) ليلة البارحة درس….. عجن…. خبز
وير عليه عمي وهو الآخر منكبا يقوم بتفريد مشتل الأرز ومسترجعا ما درسه في القسم الليلي
درس…. عجن….. خبز
يأتي المساء الكل يرجع الي البيت وما أن تطأ أقدامنا البيت
تكون أمي قد انتهت من أعداد المحشي المسقي بمرقة ضكور البط البلدي والمطبوخ بالسمن البلدي الذي لو شمه جائع من فرسخ وثبا…. و ينساب أصبع المحشي من بين أصابعك لفمك قفزا من فرط حلاوته
تضع أمي طبلية كبيرة للكبار المنهكين في شغل الغيط طوال النهار وطبلية أخري للحريم والصبية الصغار
ننتهي من وجبة العشاء وكانت وجبة رئيسية للعائدين من الحقول الذين أنهكهم التعب من فرط العناء طوال اليوم
تقوم النسوة لحلب البهائم ومن ثم وضع عليقة العشاء للحيوانات المنهكة طوال اليوم في إدارة الساقية أو تلويط الأرز وتفريد الشتلة حتي تسترد عافيتها وتقوي علي العمل نهارا..
بينما يجلس والدي علي المصطبة التي تتوسطها ( الشالية )
وهي منقد الحطب والنار
ونحن من حوله وتبدأ جموع الفلاحين تهب من كل فج عميق وتتسع القعدة رويدا رويدا ويتبادل الكبار الضحكات
ويقضي الناس مصالحهم في تجهيز الأرض لشتل الأرز
فتتزامل كل مجموعة يوما وهو نظام لتبادل العمالة بدون أجر ويتبادلون المشورة ويحلون مشاكلهم ويوزعون المناوبة علي سقية الزرع حيث لكل فلاح عدد محدد من الساعات ومن الأيام حتي يأخذ كل فرد دوره في السقية
يمر الزمان …وتمضي الأيام
وأعود الي زيارة أهلي في قريتنا اليوم
أمر في شوارع القرية متنقلا في أزقتها وحواريها
لم أعثر علي أي معلم من معالمها القديمة التي أعرفها
أختفي كل شئ حتي مكنة الطحين التي كانت تعج بالقرويات لطحن الغلال هي الأخري اختفت وذهبت أدراج الرياح
الترع والخلجان التي كانت تمر بالماء الرقراق هي الأخري بعد أن أصابها التطوير وتم استبدالها بمواسير
واختفت أشجار الصفصاف التي كانت تغطي جانبي الترعة
وألمح من بعيد عند زيارتي لابن خالتي ابراهيم أبو كامل
شجرة الجميز ومضيفة أبو معالي المبنية من الطوب اللبن
والتي كانت لها أمجاد تقف مزوية يتيمة وسط كتل خرسانية صماء وأبراج سكنية وعمارت كعلب الكبريت
وتقف شجرة الجميز في شموخ وكبرياء وكأنها حارس أمين ينظر بازدراء للزائر الغريب الذي جاء ليناطحها في كبريائها
هذا الزائر النشاز الذي اقتحم عليها خلوتها وجاء ليطمس معالم المضيفة من أبراج سكنية وكتل خرسانية شاهقة
وعمارات مكونة من شقق أشبه بعلب الكبريت
ولسان حال شجرة الجميز ينادي أين البيوت الطينية العتيقة
أين المصاطب والأفران البلدي
أين الدور …..؟ وأين سكانها…؟ أين ذهب الناس الطيبين
أين أختفت النسوة القرويات وتتساءل الجميزة أين رواد المضيفة من الأكابر والطيبين وأولاد الأصول
أين زينب أين خضرة أين نفيسة وهن يتبادلن أطباق الطبيخ والحلوي ويستلفن من بعضهن البعض كوب الزيت أو تلقيمة الشاي أو شوية السكر أو الرغفان الزاهية دون من أو سلوي ودون معايرة بفقر أو خلافه
أين ذهب ذاك الزمن الجميل
أين ذهب السفير أحمد رمزي وأين فيللا أمين فخري وأين فيلات أحفاد بطرس غالي في قريتنا الجميلة
شجرة الجميز مازالت تقف في شموخ وكبرياءكأنها حارس أمين تغطي ظلالها الوارفة ما تبقي من أولاد الأصول لتحميهم من غدر الزمان
و تنحني عروفها وتتدلي أغصانها وهي تبكي حالها وسط كل هؤلاء الغرباء في قريتي الحبيبة اكياد